الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
تنبيه:قال الزمخشري يجوز في هذا التشبيه أن يكون من المركب والمفرق فإن كان تشبيهًا مركبًا فكأنه قال من أشرك بالله تعالى فقد أهلك نفسه هلاكًا ليس بعده هلاك بأن صوّر حاله بصورة حال من خرّ من السماء فاختطفته الطير فتفرّق مزعًا في حواصلها أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المطاوح البعيدة وإن كان مفرقًا فقد شبه الإيمان في علوّه بالسماء والذي ترك الإيمان وأشرك بالله بالساقط من السماء والأهواء التي تتوزع أفكاره بالطير المختطفة والشيطان الذي يطوح به في وادي الضلالة بالريح التي تهوي بما عصفت به في بعض المهاوي المتلفة. اه. قوله يطوح به الباء مزيدة للتأكيد قال الجوهري: طوّحه أي توّهه وذهب به هاهنا وهاهنا وقرأ نافع بفتح الخاء وتشديد الطاء والباقون بإسكان الخاء وتخفيف الطاء ثم عظم ما تقدّم من التوحيد وما هو مسبب عنه بالإشارة بأداة البعد فقال تعالى: {ذلك} أي: الأمر العظيم الكبير فمن راعاه فاز ومن حاد عنه خاب، ثم عطف عليه ما هو أعمّ من هذا القدر فقال تعالى: {ومن يعظم شعائر الله} جمع شعيرة وهي البدن التي تهدي للحرم لأنها من معالي الحج بأن يختار عظام الأجرام حسانًا سمانًا غالية الأثمان ويترك المكاس في شرائها فقد كانوا يغالون في ثلاث، ويكرهون المكاس فيهنّ الهدي والأضحية والرقبة، وروى ابن عمر عن أبيه رضي الله عنهما: «أنه أهدى نجيبة طلبت منه بثلثمائة دينار فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة بدنة فيها جمل لأبي جهل في أنفه برة من ذهب» وكان ابن عمر يسوق البدن مجللة بالقباطي فيتصدّق بلحومها وجلالها ويعتقد أن طاعة الله في التقرّب بها وإهدائها إلى بيته المعظم أمر عظيم لابد أن يقام به ويسارع فيه {فإنها} أي: تعظيمها ناشيء {من تقوى القلوب} فمن للابتداء فإن جعلت تبعيضية فلابد من حذف تقديره: فإنّ تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب فحذفت هذه المضافات ولا يستقيم المعنى إلا بتقديرها لأنه لابدّ من راجع من الجزاء إلى من ليرتبط به وإنما ذكرت القلوب لأنها مراكز التقوى التي إذا ثبتت فيها وتمكنت ظهر أثرها في سائر الأعضاء وسميت تلك البدن شعائر لإشعارها بما يعرف به أنهار هدي كطعن حديدة بسنامها.قال البقاعي: ولعله مأخوذ من الشعر لأنها إذا جرحت قطع شيء من شعرها أو أزيل عن محل الجرح فيكون من الإزالة {لكم فيها} أي: البدن {منافع} كركوبها والحمل عليها بما لا يضرها وعن إبراهيم: من احتاج إلى ظهرها ركب ومن احتاج إلى لبنها شرب وقال أصحاب الرأي: لا يركبها إلا إذا اضطرّ إليها {إلى أجل مسمى} وهو وقت نحرها {ثم محلها} أي: مكان حلّ نحرها {إلى البيت العتيق} أي: عنده والمراد الحرم جميعه وقيل المراد بالشعائر المناسك ومشاهد الحج وبالمنافع الأجر والثواب في قضاء المناسك إلى انقضاء آجالها وبحملها إلى محل الناس من إحرامهم إلى البيت يطوفون به طواف الزيارة {ولكل أمّة} أي: جماعة مؤمنة سلفت قبلكم {جعلنا منسكًا} أي: متعبدًا وقربانًا يتقرّبون به إلى الله تعالى، وقرأ حمزة والكسائي {منسكًا} هنا وفي آخر السورة بكسر السين في الموضعين فيكون بمعنى الموضع والباقون بفتحها مصدر بمعنى النسك {ليذكروا اسم الله} أي: الملك لا على وحده على ذبائحهم وقرابتهم لأنه الرازق لهم وحده فيقولون عند النحر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر اللهمّ منك وإليك ثم علل الذكر بالنعمة تنبيها على التفكر فيها فقال تعالى: {على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} فوجب شكره لذلك عليهم، وفيه تنبيه على أن القربان يجب أن يكون من الأنعام {فإلهكم} أي: الذي شرع هذه المناسك كلها {إله واحد} وإن اختلفت فروع شرائعه، ونسخ بعضها بعضًا، وإذا كان واحدًا وجب اختصاصه بالعبادة فلذا قال تعالى: {فله} وحده {أسلموا} أي: انقادوا بجميع طواهركم وبواطنكم في كل ما أمر به أو نهى عنه {وبشر المخبتين} أي: المطيعين المتواضعين من الخبث، وهو المطمئن من الأرض وقيل: هم الذين لا يظلمون، وإذا ظلموا لم ينتصروا.ثم بين علاماتهم بقوله تعالى: {الذين إذا ذكر الله} أي: الذي له الجلال والجمال {وجلت} أي: خافت خوفًا مزعجًا {قلوبهم} فيظهر عليها الخشوع والتواضع لله تعالى: {والصابرين} الذين صار الصبر عادتهم {على ما أصابهم} من الكلف والمصائب ولماكان ذلك قد يشغل عن الصلاة قال تعالى: {والمقيمي الصلاة} في أوقاتها والمحافظة عليها، وإن حصل لهم من المشاق بأفعال الحج وغيره ما عسى أن يحصل، ولذلك عبر بالوصف دون الفعل إشارة إلى أنه لا يقيمها على الوجه المشروع مع تلك المشاق والشواغل إلا راسخ في حبها فهم لما تمكن حبها في قلوبهم والخوف من الغفلة عنها كأنهم دائمًا في صلاة {ومما رزقناهم ينفقون} في وجوه الخير من الهدايا التي يغالون في أثمانها وغير ذلك إحسانًا إلى خلق الله تعالى.ولما قدّم تعالى الحث على التقرّب بالأنعام كلها وكانت الإبل أعظمها خلقًا وأجلها في أنفسهم أمرًا خصها بالذكر فقال تعالى: {والبدن} أي: الإبل المعروفة جمع بدنة كخشب وخشبة وانتصابه بفعل يفسره {جعلناها لكم من شعائر الله} أي: من أعلام دينه التي شرعها الله تعالى وقيل لأنها تُشْعَر وهي أن تطعن بحديدة في سنامها ليعلم بذلك أنها هدي {لكم فيها خير} أي: نفع في الدنيا وثواب في العقبى كما قال ابن عباس دنيًّا وأخرى، وروى الترمذيّ وحسنه عن عائشة رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما عمل ابن آدم يوم النحر عملًا أحب إلى الله من هراقة الدم وأنه ليؤتي يوم القيامة بقرونها وأظلافها وأشعارها وإنّ الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع إلى الأرض فطيبوا بها نفسًا» وروى الدارقطني في السنن عن ابن عباس قال «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أنفقت الورق في شيء أفضل من نحيرة في يوم عيد» وعن بعض السلف أنه لم يملك إلا تسعة دنانير فاشترى بها بدنة فقيل له في ذلك فقال سمعت ربي يقول: {لكم فيها خير} {فاذكروا اسم الله عليها} أي: على ذبحها بالتكبير حال كونها {صواف} أي قائمة على ثلاث معقولة اليد اليسرى لأنّ البدنة تعقل إحدى يديها فتقوم على ثلاث {فإذا وجبت جنوبها} أي: سقطت سقوطًا بردت به بزوال أرواحها فلا حركة لها أصلًا، من وجب الحائط وجبة سقط، ووجبت الشمس وجبة غربت، قال ابن كثير وقد جاء في حديث مرفوع ولا تعجلوا النفوس أن تزهق وقوله تعالى: {فكلوا منها} أي: إذا كانت تطوّعًا أمر إباحة دفعًا لما قد يظنّ أنه يحرم الأكل منها للأمر بتقريبها لله تعالى: {وأطعموا القانع} أي المتعرّض للسؤال بخشوع وانكسار {والمعتر} أي: السائل وقيل بالعكس وهو قول الشاعيّ رحمه الله تعالى قال في كتاب اختلاف الحديث القانع هو السائل، والمعتر هو الزائر، وقيل: القانع هو الجالس في بيته المتعفف الذي يقنع بما يعطى ولا يسأل ولا يتعرّض.والمعتر المعترّض وقيل القانع هو المسكين والمعتر الذي ليس بمسكين، ولا تكون له ذبيحة فيجيء إلى القوم فيتعرّض لهم لأجل لحمهم {كذلك} أي مثل هذا التسخير العظيم الذي وصفناه من نحرها قيامًا {سخرناها} بعظمتنا التي لولاها ما كان ذلك {لكم} وذللناها ليلًا ونهارًا مع عظمها وقوّتها تأخذونها منقادة فتعقلونها وتحبسونها ولو شيءنا لجعلناها وحشية لم تطق ولم تكن بأعجز من بعض الوحش التي هي أصغر منها جرمًا وأقل قوّة {لعلكم تشكرون} إنعامنا عليكم لتعرفوا أنّ ما ذللها لكم إلا الله تعالى، فيكون حالكم حال من يرجو شكره فتوقعوا لشكر بأن لا تحرّموا منها إلا ما حرّم عليكم ولا تحلوا منها إلا ما أحلّ، وتهدوا منها ما حث على إهدائه وتتصرفوا بحسب ما أمركم.ولما حث تعالى على التقرّب بها مذكورًا اسمه عليها قال تعالى: {لن ينال الله} الذي له صفات الكمال {لحومها} المأكولة {ولا دماؤها} المهراقة أي: لا يرفعان إليه {ولَكِن يناله التقوى منكم} أي: يرفع إليه منكم العمل الصالح الخالص له مع الإيمان، كما قال تعالى: {والعمل الصالح يرفعه} [فاطر] أي: يقبله وقيل: كان أهل الجاهلية إذ انحروا البدن نضحوا الدماء حول البيت ولطخوه بالدم فلما حج المسلمون أرادوا مثل ذلك فنزلت.ثم كرّر سبحانه وتعالى التنبيه على عظيم تسخيرها منبهًا على ما أوجب عليهم به بقوله تعالى: {كذلك} أي: التسخير العظيم {سخرها لكم} بعظمته وغناه عنكم {لتكبروا الله على ما هداكم} أي: أرشدكم لمعالم دينه ومناسك حجه، كأن تقولوا الله أكبر على ما هدانا والحمد لله على ما أولانا، فاختصر الكلام بأن ضمن التكبير معنى الشكر وعدّي تعديته.ثم وعد من امتثل الأمر بقوله تعالى: {وبشر المحسنين} أي: المخلصين فيما يفعلونه ويذرونه كما قال تعالى من قبل {وبشر المخبتين} والمحسن هو الذي يفعل الحسن من الأعمال ويتمسك به فيصير مخبتًا إلى نفسه بتوفير الثواب عليه، وقال ابن عباس: الموحدين. اهـ.
|